في ذكرى من مضوا،، الجزء 4 والأخير

*حين نموت فإننا نمهد الطريق لانطلاقة غيرنا.. فهم لابد سيتعظون برحيلنا وانتهاء مهلتنا فيقفزون فوق خيالات عجزهم وتسويفهم.. ويدركون أن الكل قد يستطيع العيش بفرح لكن نادر من يستطيع أن يموت بفخر واطمئنان..

*حين نموت فإننا بلا شك نمنح من أحبونا فرصة نادرة ورائعة لإثبات حبهم ووفائهم لنا.. مثلما قال أحد الصحابة رضوان الله عليه لأخيه حين سمعه يبكي على موت الرسول صلى الله عليه وسلم ويردد كلاماً يتمنى فيه لو أنه مات قبل الرسول ولم يُفجع بموته، فرد عليه من وسط دموعه ورباطة جأشه: “أما أنا فلا أتمنى أنني متُ قبله لأصدقه ميتاً كما صدقته حياً”

نعم فحين نموت تنكشف حقائق المشاعر التي يُكنها لنا الآخرين فتظهر بلا زيف بلا مؤثرات دنيوية بل الحقيقة و الحقيقة فقط و كأنها صفحة ماء رائق وساكن يظهر فيه القاع بلا لبس واضحاً بكل ما فيه من وفاء و اقتداء و حب خالص..

إن رحيلنا يُحي أجزاءً ثمينة في قلوب من أحبنا وأحب نهجنا في الحياة، يحلو للبعض أن يُسميها (عرائس الشمع) التي تنتفض حية حين نموت وخاصة حين نموت ونحن ثابتين عليها.. فالحب كبذور خامدة تنتظر المطر حتى تُزهر، ولا مطر أفضل من مطر الحق.. وهل هناك حق مثل الموت؟؟!!.. أروع القصص التي ترتفع ببشريتنا تأتي بعد رحيل الأعزاء عنا…

الموت عبدٌ حبيب لربه ولنا يجب أن لا نكرهه فهو يضبط ويكمل دائرة الحياة المحكمة ولولاه لفسدت أمور كثيرة في حياتنا..

صحيح أنه صعب وقاسي لكن مثله مثل الولادة مؤلمة لكنها بداية جديدة بإذن الله

بهكذا فهم ندرك أن علينا بذل كل طاقتنا وألا نُهدر لحظة واحدة لأننا أصبحنا ندرك كم هي ثمينة، فنجعل حياتنا رسالة ومن موتنا غنيمة لنا ولمن أحبنا..

* أفضل ما في الموت أن نفكر فيه أنه عملية نقل لكل من وما نحب إلى مكان آمن وكأننا نجهز منزلاً فخماً بكل ما نشتهي حتى إذا قدمنا عليه وجدنا فيه كل ما ومن نحب.. علينا أن نؤمن أن أحبابنا ينتظروننا هناك بإذن الله..

كلما أحببنا هذه الحياة في عيون كل أحبتنا وكل من أحبونا كلما أصبحت نهايتنا قانعة وسعيدة وذو إحساس  ممتن على الرغم من أن أعمارنا قد تبدو قصيرة لكننا نمتن لأننا نراها حياة مفعمة بالضياء.. لم تكن مليئة بالصواب لكنها كانت ثرية بالتحديات والمحاولات التي يكفي شرف خوضها بقوة وسمو..”

ها هنا توقفت صدى تلك الكلمات المضيئة القادمة من عالم  الذكريات الخالد ومع توقفها توقف سيل الكلمات الحارة من فم صاحب الذكريات النابضة فقد غلبته غصته وأشواقه للراحل الحبيب قائل الكلمات المشرقة……..

فأخرج منديلاً من جيبه و مسح دموعه المنهمرة و غمغم بهدوء: “أترى يا صديقي أن الألم لا يزول.. يظل قوياً وحارقاً حتى بعد أكثر من 10 سنين فحين يرحل من نحب فإننا لا ننساهم.. لا ننسى كلماتهم.. ووصايا لحظاتهم الحكيمة.. لا ننسى لكننا نتصبر ونحاول التلاهي.. “

نظر صديقه الذي يجلس إلى جواره باندهاش إليه وهو يمسح وجهه من الدموع التي أغرقته وسأله بتأثر: “منذ تلك السنين الطويلة ولازلت تذكر كل تلك الكلمات بهذه الحرارة؟؟!!”

أجابه بتهدج :”وهل مثلها يمكن نسيانه؟؟!! “ثم التفت لصاحبه وقال بحزم: “يا صاحبي حين يرحل من نحب عنا فإنهم يأخذون قطعة غالية من قلوبنا ومن حياة أرواحنا معهم.. يأخذون معهم تلمسنا السطحي للحياة وسذاجة فهمنا لتفاصيلها.. يأخذون الكثير منا فكيف لنا أن ننسى أو أن نعود كما كنا قبل رحيلهم..؟؟!!”

ابتسم صديقة بحسرة وهو يقول :”شكراً لهذه المعلومة فلقد كنت أعلل نفسي بأن الأيام كفيلة بتخفيف الألم..”

ربت صاحب الجرح القديم على كتف المستجد قائلاً بحزم: “علينا أن لا نخدع أنفسنا.. فمن أحببناهم لا يمكن ولا يجوز لنا أن ننساهم.. لكننا نجتهد لنصبح أفضل بعد رحيلهم إجلالاً لهم وتكريماً لبذلهم لنا..”

بدا التساؤل في عيني الصغير فأجابه: “يا صاحبي هناك دوماً غشاوة وعوالق في نفوسنا حتى مع أكثر الأشياء روحانية وتجرد في حياتنا.. ولا يمكن تنقية تلك الشوائب إلا برحيل أجزاء منا إلى عالم الحق.. فحين يرحل أحبابنا فإن أجزاء كبيرة منا ترحل معهم.. ترحل معهم من حياتنا إلى عالم الحق.. عالم الموت، فكأننا بهذا الارتحال نرتفع فوق أسوار المادية والدنيا واليوميات التي تُلُهينا حتى الثمالة..

و كأن تلك الرحلة الملتهبة تُيقظ أفضل ما في أرواحنا فتشف، وتخف فنحلق ونبصر الأمور على حقيقتها.. فنرى بصفاء أن تعبيرنا عن حبنا لمن نحبهم أهم من انجازات عظيمة وعمل لا ينتهي ولن ينتهي.. نرى أن الحياة خطة تنفيذية لها خط نهاية ومُهلة سرعان ما تنتهي فلابد أن نتوقف عن تضييع الوقت سواء بالتسويف أو بالاستجابة لضغط الآخرين وتلبية توقعاتهم منا على حساب أولويتنا.. نرى أن كل شيء ينتهي تحت أقدام اللحظات الأخيرة إلا المشاعر الصادقة المخلصة لله وفي الله.. ندرك أن العالم لا يتوقف لموت أحد تظل الشمس تشرق في اليوم التالي والعصافير تشدو والمياه تجري والأزهار تتألق.. لا شيء يتوقف.. فالحياة أقوى بزخمها وروعتها من الموت..

لكنها نفسها تلك الحياة القوية تنحني إجلالاً لمن قدم لها خدمة فتظل تذكره وتبكيه في قلوب الناس وفي كل كائن وشيء ناله خيرية الراحل وهذا هو بحق الخلود الحقيقي..

نواجه حقيقة أن الأبواق والأقنعة بلا قيمة.. فلما الحرص؟؟؟

 ندرك أمور كثيرة.. باختصار نصبح أكثر حكمة.. هذا يحدث فقط حين نتقبل الموت كحقيقة لازمة هامة وضرورية لاستمرار الحياة …حين نفهم الموت كجزء لابد منه لتكتمل دائرة الحياة و كجسر لحياة أكبر و أحلى و أكثر منطقية من دنيانا التي تكاد تطفر باللامنطقية و اللاعقلانية لكثرة ما أفسدنا فيها..

شخصياً فقدي لمن أحببت جعلني احسم إجابات كثيرة في نفسي وأُنهي محطات انتظار حمقاء كثيرة في ذاتي.. أدركتُ أنني لا أريد الوصول متأخراً وأنني يجب أن أجتهد لأسبق..

أنه لمن الخير أن ننضج ولو قليلاً من عبث التسويف الذي يعتقد فيه المرء أن لديه المزيد من الوقت ليتردد ويتوقف عند كل محطة وليتسكع عند كل مفترق طريق وهو يظن أنه يفكر وهو لا يفعل شيء إلا إضاعة الوقت في السماع للمخاوف والوساوس..”

و بحركة أخوية لطيفة أحاط صاحبه بذراعه بحنان و هو يكمل : “عليك أن تبكي فما ذهب ليس بالشيء الهين.. فمن يموتون يبتعدون للأبد فلن تستطيع مراسلتهم ولا زيارتهم ولا الاعتذار لهم عن ما بدر منك.. هنا تسكب العبرات بحقها.. لكن يا صديقي عليك أن تقبل حزنك وفقدك وأن ترضى بهما حتى تشف روحك وتكتشف تلك الحكمة التي غنمتها.. لابد أن تسمو وأن تصبح في مستوى إدراك أعلى..”

تنهد المستجد و هو يتمتم: “أراها معادلة شبه مستحيلة  …الحزن و الرضا في نفس الوقت “

ابتسم صاحبنا بثقة وهو يقول : “بالطبع هي كذلك.. لكن ليس على المؤمنين.. صدقني ليس على المؤمنين، المؤمن شخص يفهم أن الموت والحياة من أمر الله وأنه تقدست أسماؤه المحي وهو المميت.. وأنه اقتضى بحكمته أن لابد من فصل أخر لقصة دنيانا يسعد فيه الذي عمل الخير ويُعاقب مَن عمل الشر.. واقتضى أن يكون الموت نهاية المهلة الممنوحة لنا ولهذا فهو خير معلم وخير مرشد ليس بالتخويف بل بالمنطق فالذين يتقبلون الموت يعرفون كيف يستعدون له..

يعرفون كيف يُتقنون في تعبيرهم للحياة عن حبهم لها.. بالعمل فيها طولاً وعرضاً بلا تسويف وبكل استمتاع وإتقان.. يعرفون كيف يقفزون فوق أوهام الكبرياء والبرود فيتفانوا تصريحاً وتعبيراً لمن يحبونهم عن مشاعرهم بأكثر من طريقة وكأنها تغاريد عذبة لا يملون من عزفها.. إنهم يعرفون جيداً كيف يحققون أحلامهم بلا كلل وباقتدار..”

هنا علت شبح ابتسامة على شفتي المستجد.. يبدو أنه قد لمح أنوار تلك النظرة العلوية وبدا كأن طريق وزن المعادلة المستحيلة قد تراءى له وسط إشراقات أشواقه لمن رحلوا..

و الحمد لله رب العالمين،،،،

IMG-20240805-WA0005